د. عبدالحميد المبرى. ومن أهم صفات هذه اللحظات والأيام الفارقة أنها حدية، بمعنى أنها تكشف المواقف، وتسقط الاقنعة وتفرز الجميع بشكل قاس، ولكنه مفيد في النهاية بالنسبة للأوطان، التي لا تقبل سوى الصدق في مواجهة الخطوب.
وليس مصادفة أبدا أن يصاحب هذه الأيام الفارقة الكثير من المفاجآت بالنسبة لأفراد وتيارات وجماعات وقوى سياسية واجتماعية، فتنقلب أو تتغير المواقف، أو تنطلق الوحشية المغلفة والاستبداد الكامن، والأمية السياسية من عقالها، من جانب البعض. ومن جانب البعض الآخر تظهر التضحيات الوطنية الرفيعة، والانحياز لموقف السواد الأعظم من الجماهير، وللمصلحة العليا للأوطان، وللحفاظ على هذه المصالح، ووقف تهديدها. وبقدر صعوبة هذه الأيام، وما تطرحه من نتائج، بقدر أهميتها لحاضر الأوطان ومستقبلها أيضا. لأن الأوطان هي الرابحة في النهاية، برغم أية خسائر تكتيكية.وما يحدث في مصر يقدم في الواقع نموذجا واضحا، وبالغ الدلالة في قدرة الأوطان، ليس فقط على الفرز، ولكن أيضا على التسامي على أية جراح أو كبوات، وتجاوزها والقائها خلف الظهر، لأن المستقبل هو ما ينبغي التأكيد عليه. وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:
** أولا: لا بد من الاعتراف، وكما سبق الإشارة قبل عام تقريبا، أنه كانت هناك فرصة، فرصة حقيقية للإخوان المسلمين أقوى تيارات الإسلام السياسي وأكثرها قدرة على تقديم نموذج معتدل للإسلام، نموذج قادر على الرد على أية محاولات تشويه خارجية، وفي الوقت ذاته قادر على احتواء وجذب أكبر قطاع ممكن من الجماهير لخدمة المصالح الوطنية بوعى، دون الوقوع في هوية التفسيرات الأممية او محاذير تذويب أو محاولة تذويب الأوطان في الدائرة الإسلامية الواسعة بتعسف ومزايدة على مشاعر نقية للمواطنين البسطاء المتدينين بطبعهم. نعم كانت فرصة للالتقاء وتجاوز أية شقوق بين فئات الشعب المصري، فرصة لبناء سبيكة مصرية قوية تضم كل عناصر وقوى الشعب المصري، وكان مأمولا أن يحدث ذلك برعاية عالم فلزات متخصص. ولكن للأسف الشديد ضاعت وتبددت الفرصة خلال عام واحد . كان النظر قصيرا، وكانت الرغبة في الاستحواذ والسيطرة على مفاصل السلطة أكبر من أي شيء آخر. كما اتضح جدب الخبرة، وعدم توفر الكفاءات، وقلة الحيلة أمام الاستحقاقات أكبر بكثير من قدرات تيار أوهم الجميع بأن لديه قدرة كافية على التصدي للمسؤولية. وسرعان ما اكتشفت الجماهير أن حياتها اليومية تتدهور باستمرار، وأن مقدرات مصر تتآكل، وأن من وثقت فيهم ومنحتهم الفرصة لم يتخلصوا بعد من ثقافة العمل السري والجماعة المغلقة، وهو ما لا يصلح لادارة دولة بحجم مصر . ومع الوضع في الاعتبار وجود عوامل ومؤثرات متعددة ومتفاوتة التأثير بالنسبة للأوضاع في مصر، إلا إنه من المؤكد أن العنصر الداخلي، المرتبط بحياة المواطنين المصريين، وما صاحب ذلك من مفاجآت اكتشاف حقائق مرة، هو ما حرك جموع المصريين على النحو الذي حدث، وعلى نحو لم يحدث من قبل. وقد تفاوتت تقديرات الجموع بين 14 مليون في أقل التقديرات وما يتجاوز 27 مليون في أكبرها.
وإذا كان الشعب والدولة المصرية تعرضت لخسارة، تظل في النهاية تكتيكية، بمعنى أنها صغيرة ويمكن تجاوزها، على الصعيد الوطني العام، فإن الخسارة كانت استراتيجية بالنسبة للإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة. لأن ما حدث في مصر من فشل يؤثر بالقطع على قوة وفرص الإخوان، وكذلك على علاقاتهم وحتى أوزانهم النسبية، داخل وخارج مصر، والأكثر خطورة من ذلك أن ما حدث دفع بعدد من قياداتهم إلى اتخاذ مواقف خاطئة من خلال تشجيع اللجوء إلى العنف لاستخدامه أداة في المساومة السياسية مع القوات المسلحة، ومحاولة فرض الوجود عبر الشارع.
وكان صادما أن لفظ «الدم» تكرر كثيرا على السنة كبار قيادات الجماعة، من الرئيس السابق إلى المرشد إلى غيره، أما الارهابيون السابقون فقد عادوا بقوة إلى واجهة المنصة التي يقودها الإخوان، وهو ما أثار المخاوف، ولكنه أدى في الوقت ذاته إلى إثارة ردود فعل في الشارع ليست بالقطع في صالح الإخوان، لا الآن ولا في المستقبل . وهذه خسارة كبيرة بالتأكيد، خاصة مع اختلاطها بالكثير من مشاهد العنف البالغة التي يرفضها المصريون بطبعهم . أيا كانت انتماءاتهم.
** ثانيا: أشار صديقي إلى الشرعية الدستورية، وإلى حق الرئيس مرسي في استكمال مدته الرئاسية، زاعما أن ما قامت به القوات المسلحة المصرية هو «انقلاب عسكري» وبقية ما يقال معروفة . وإذا كانت آليات الانقلابات العسكرية معروفة، واذا كانت اهداف الانقلابات هو استيلاء القوات المسلحة على السلطة وإدارتها، وفي ظل ما هو معروف عن موقف القوات المسلحة المصرية وما أعلنته من رغبة في عدم الخوض في صراعات السياسة وتعقيدات إدارة الدولة، فإن ما حدث لا يمكن تصنيفه على أنه انقلاب عسكري، وهو ما لم يتم حتى من جانب الحكومات الغربية، خاصة وأنه يرتبط إلى حد بعيد بالأداء السياسي من ناحية، وبتحرك ملايين المصريين في الشارع، وعلى نحو غير مسبوق من ناحية ثانية . ولم يصف ما حدث بأنه انقلاب سوى الإسلاميين في الدول التي يتولون السلطة فيها. وعلى أية حال فإنه إذا كان الشعب هو الذي فوض الرئيس عبر صناديق الانتخابات، فان الشعب ذاته، وبجموع مضاعفة هو من يسترد هذا التفويض . وليس صحيحا أن التغيير الديمقراطي لا يتم إلا عبر صناديق الاقتراع فقط . لأن ذلك يعني ببساطة إتاحة الفرصة لتخريب مصر وتغيير هويتها وزيادة مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية، إذا استمر الأداء بالمستوى الذي كان عليه خلال العام الماضي، والجميع تقريبا، وحتى من جانب عدد غير قليل من المتنورين الإسلاميين، يقر بذلك بوضوح . ومن ثم فإن ما قامت به القوات المسلحة المصرية هو التدخل، استجابة لارادة شعبية كاسحة، ولممارسة مهمتها في الحفاظ على أمن مصر القومي، بعد أن أعطت أكثر من مهلة، وحاولت بطرق متعددة لوضع حد للخلل عبر التحاور مع كل الأطراف. يضاف إلى ذلك أن القيادات المصرية خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها هي قيادات مدنية معروفة، داخل مصر وخارجها. وعلى ذلك ففزاعة الانقلاب العسكري، والجري على عتبات القوى الخارجية والاستنجاد بها للتدخل هو خطيئة كبرى، لا يضارعها سوى اللجوء الى العنف، والكشف عن الوجه الدموي لأشخاص ومجموعات، كانت هناك آمال كبيرة في تخليهم عن تلك الأساليب المفزعة، والدين بالقطع برئ منها تماما، مهما كانت ادعاءاتهم.
** ثالثا: أنه إذا كانت القوات المسلحة المصرية قد أكدت على عدم إقصاء اي طرف او قوة سياسية، فانه من المؤكد انه في تلك الأيام الفارقة تحتاج مصر إلى تلاقي كل القوى السياسية، والانطلاق من عدم الإقصاء، ومن عدم الاستحواذ ايضا من جانب أى طرف، ولتحقيق ذلك فانه من المهم والضروري استبعاد ممارسات الابتزاز أو جر مصر إلى دائرة العنف بأي شكل من الاشكال، لان ذلك ببساطة لن يكون في صالح مصر، ولا في صالح أي فصيل سياسي. ولعل نقطة البداية هي في النزول على رغبة جماهير الشعب المصري، التي نزلت الى الشارع بجموع غير مسبوقة يوم 30 يونيو الماضى وأمس الأول أيضا. لأن الجماهير هي المرجع النهائي، وبعيدا عن الرغبة في فرض محاصصات ما، لم تعرفها مصر من قبل، وبعيدا أيضا عن أية مناورات سياسية، لهذا الطرف أو ذاك، فان اللحظة هي لحظة الإنحياز الى مستقبل زاهر لمصر وإلى بناء وتحقيق الأمن والاستقرار، وهو ما يحتاج إلى حشد كل المخلصين وكل الأوفياء والحريصين على بناء مصر دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على المواطنة وحكم القانون. أما إغراق مصر في الدماء فإنه سيكون انتحارا سياسيا لمن يقومون به بالتأكيد